[frame="1 80"]والواقع، ان الكويت، وان كانت تتميز بارتفاع مستوى المدخرات بالنسبة للفرد، الا انها كانت تفكر في كيفية تحويل هذه المدخرات المتراكمة الى استثمارات محلية منتجة، بدلا من التركيز على الانشطة التي تدر الارباح السريعة فقط، مثل: المشروعات العقارية والانشائية والاستثمارات المالية، او اللجوء الى المضاربات الحادة التي افرزت سوق المناخ كملتقى لرأس المال المتراكم، وظهرت معه طبقة من المستثمرين الباحثين عن العائد السريع من خلال الاستثمار في اوراق مالية لشركات معظمها وهمية. مما دعا الحكومة ـ وبتوجيهات من الشيخ جابر الاحمد ـ الى سرعة التدخل لتجميد السوق الموازية للاوراق المالية المعروفة بسوق المناخ، وذلك من خلال برامج محددة، والتركيز بصفة أساسية على السوق الرسمية، حيث يتم توجيه راس المال الى الوجهة المستهدفة والصحيحة، وضمان الاستقرار للاقتصاد الوطني، ووقف التأثير السلبي على المراكز المالية للبنوك وتدفق الائتمان، وتدهور اسعار الاصول، ومستوى النشاط الاقتصادي في مجموعه.
وكانت توجيهات الشيخ جابر الاحمد في شأن مواجهة هذه الازمة، تتمثل في الاسراع الى وضع الحلول الانية لعلاج الازمة، بجانب البحث في الوضع المستقبلي لسوق الاوراق المالية، مع الاستعانة ببيوت الخبرة في هذا المجال لوضع اللوائح والاجراءات التي تنظم التعامل في سوق المال، والتاكد من قدرة آليات السياسة الاقتصادية في الدولة، حتى لا تتكرر مثل هذه الازمات، وعليه فقد طرحت عدة اجراءات عاجلة لحل الازمة، كان اهمها:
1 ـ اغلاق سوق المناخ ولأجل غير مسمى.
2 ـ منع اي تداول في اسهم الشركات الخليجية، حتى لا يتم حدوث تعاملات مالية تحت ظروف غير طبيعية تزيد من تعقد المشكلة.
3 ـ ان تدعم الحكومة صغار المستثمرين وتعوضهم عن خسائرهم، كي تعيد لهم الثقة في الاستثمار في الكويت، بصدور القرار الوزاري عن وزارة التجارة المتعلق بانشاء صندوق خاص لصغار المستثمرين.
ولم يكن صدور هذا القرار الوزاري لمصلحة المستفيدين منه فقط، بل كان دعوة من الدولة للجميع للاسهام في فرص استثمارية منتجة، وقد استطاعت هذه الاجراءات ان تحقق عدة امور في طريق الاصلاح الاقتصادي، ويمكن ذكر بعضها:
1 ـ توجيه السيولة الى مجالات حقيقية، وغير تضخمية تلبي رغبات المستثمرين من خلال تعاملهم بالسندات والاسهم.
2 ـ حفظ حقوق صغار المستثمرين، واعادة الثقة بالاستثمار داخل الكويت،
3 ـ تشجيع البنوك المتخصصة والشركات الاستثمارية الى الاتجاه الى المشاركة في الاستثمار الداخلي.
هذه الاجراءات ساهمت بشكل فعال وقوي في انقاذ الاقتصاد الكويتي من انهيار وشيك، كان سيصاحبه ـ بلا شك ـ تداعيات اجتماعية خطيرة تنعكس اثارها السلبية على حياة الفرد والاسرة الكويتية لكن شفافية الرؤية واستشراف المستقبل بالحكمة ونفاذ البصيرة، جعل الشيخ جابر الاحمد في عداد اولئك الحكماء الذين عرفوا بحسن ادارتهم للازمات الاقتصادية والسياسية.
المساهمة
في إرساء قواعد الاقتصاد العالمي
لقد حظيت شخصية الشيخ جابر الاحمد بالاحترام والقبول في الاوساط الاقتصادية العالمية وبفضله انضمت الكويت عام 1962م الى كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكان ذلك عقب الاستقلال. وقبل ان تصبح الكويت عضوا في الامم المتحدة، واصبح، بصفته وزيرا للمالية، محافظ الكويت لدى صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وعين حمزة عباس نائبا له في صندوق النقد الدولي، وعبدالعزيز البحر نائبا له في البنك الدولي. وكان عدد الدول الاعضاء في صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي لا يتجاوز 65 دولة. وتعتبر الكويت من اوائل الدول المشاركة في هاتين المؤسستين الماليتين العالميتين. وقد حضر الشيخ جابر الاحمد اجتماعات الصندوق مرتين في عامي 1962م و1964م، وألقى فيهما كلمة باسم الكويت.
وفي هذا السياق يتحدث حمزة عباس عن ارتباطات الشيخ جابر الاحمد بالشخصيات الاقتصادية العالمية، فيقول: «وكان لسموه، بصفته وزيرا للمالية ورجل الاقتصاد في الكويت، ارتباطات ومعرفة بشخصيات اقتصادية عالمية في ذلك الوقت، مثل: روكفلر، يوجين بلاك، مكنمارا، الدكتور شيللر وغيرهم من الاقتصاديين العالميين. كما كان له هيئة استشارية من الشخصيات الاقتصادية العالمية والعربية والمحلية، والذين اسهموا في تقديم المشورة لسموه في القضايا الاستثمارية والمالية».
من جهة اخرى، فانه انطلاقا من مواقف الشيخ جابر الاحمد الانسانية السامية، وسياسته الخارجية المتوازنة والمعروفة على المستوى العالمي، تمكن من جعل دولة الكويت مثلا طيبا تحتذى به دول العالم في ظل النظام العالمي الجديد.
من هنا، لم تكن الكويت غائبة بحسها وضميرها عما تكابده شعوب الدول النامية، بل كانت، منذ سنوات طويلة مضت، تساند قضايا التنمية الدولية، ومد يد العون المادي والتقني الى تلك الشعوب التي تعاني مستويات معيشية قاسية، وتثقلها القروض والديون والفوائد المتراكمة.
ففي كلمة امام الدورة الثالثة والاربعين للجمعية العامة للامم المتحدة في 27 سبتمبر عام 1988م دعا الشيخ جابر الاحمد الى ضرورة ايجاد حل اقتصادي وانساني يهدف الى تضييق الفجوة بين دول الشمال والجنوب، يقوم على مبدأ رئيسي هو بحث الغاء الفوائد على ديون الدول المدينة المعسرة، واسقاط جزء من اصول تلك الديون بالنسبة الى البلدان الاشد فقرا. وهنا اقترح مشروعا من ثلاثة بنود، جاءت على النحو التالي:
1 ـ دعوة الدو الدائنة الى عقد اجتماع فيما بينها لبحث الغاء الفوائد على ديونها المستحقة لدى الدول المدينة، مع اسقاط جزء من اصول الديون المستحقة لدى الدول الاشد فقرا، وان الكويت ـ كدولة دائنة ـ على استعداد لحضور هذا الاجتماع، والالتزام بما يصدر عنه من قرارات.
2 ـ على صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي اعادة النظر في الشروط القاسية التي يفرضها كل منهما على الدول المدينة، او التي تطلب المساعدة لتحسين اوضاعها.
3 ـ تنظيم وزيادة حجم العون العلمي والتقني الذي تقدمه دول الشمال الى دول الجنوب.
وفي هذا، يقول الشيخ جابر الاحمد: «وقد تابعنا باهتمام مناقشات الجمعية العامة التي ادرجت على جداول اعمالها بندا خاصا بمشكلة المديونية، والاراء التي طرحها عدد من رؤساء الدول والمسؤولين المتخصصين لمعالجة المشكلة نفسها.
وتعكس هذه المناقشات اعترافا دوليا بان المديونية مشكلة عامة تهدد مجمل العلاقات الاقتصادية الدولية والنظام النقدي الدولي، علاوة على تأثيرها السياسي والاجتماعي على كثير من دول العالم.
ان هذا الادراك لحجم المشكلة، وشمولها يشكل بداية صحيحة نحو التشخيص السليم، ونحو التواصل الى المعالجة الناجحة».
وقد خاطب ضمير الدول الدائنة بقوله: «مع الاخذ في الاعتبار والتقدير ما تقدمت به كل من الهند ومصر والسنغال وفنزويلا في يوليو عام 1989م، وما قامت به بعض الدول الدائنة من اسقاط اجزاء من الديون او من فوائدها، وحتى لا تكون العملية مقتصرة على مساندة دولة مدينة دون اخرى حسب ميول الدولة الدائنة، فاننا نقترح ما يلي:
1 ـ ان يدعو السكرتير العام للامم المتحدة الى عقد اجتماع تحضره مجموعة الدول العشر، وبعض الدول الدائنة الاخرى، وممثلو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وذلك لتدارس الاسس والمعايير اللازمة لتنفيذه.
2 ـ نظرا لأهمية عامل الزمن في مواجهة هذه المشكلة، ولتجنب مضاعفاتها على الدول المدينة والاقتصاد العالمي، نقترح ان يتم هذا اللقاء في مدة اقصاها ستة شهور.
3 ـ ان يضع السكرتير العام برنامج اولويات بالنسبة للدول المدينة حسب ظروف كل منها.
4 ـ ان ينظر اللقاء في دفع جهود التنمية بمشروعات واساليب تشترك فيها الخبرات العلمية والتقنية من الدول المتقدمة، والامكانات والقوى البشرية المحلية المتوافرة في الدولة المدينة، وان يراعي فيها المحافظة على البيئة من التلوث، ورفع مستوى الكفاءات البشرية المحلية لتكون اكثر مساهمة في التنمية».
واحساسا بمعاناة الدول الاشد فقرا، يستحث الشيخ جابر الأحمد الضمير العالمي بكلمات معبرة عن قسوة اوضاع هذه الدول، قائلا: «ان مشكلة الديون قد زادت من قسوة الحياة في بعض الدول الفقيرة، فاشتد فها الجوع والعري والقحط، واصبح اطفالها كأنهم أشباح أو ظلال بشرية».
«يتبع»[/frame]