ولاية نبراسكا الأمريكية
مجلة الإسلام اليوم ( عدد شوال 1427هـ )
في ظل الطفرة الاقتصادية الأخيرة التي تعيشها المملكة العربية السعودية, تفجرت بوادر الوعي – أكثر من أي وقت مضى – بأهمية رعاية خطط التنمية و إسراع وتائرها و رفع معدلات النمو في كافة القطاعات, و هذا ما تجلى في تدشين جملة من المشاريع الضخمة في القطاعات الصناعية و البترولية و الغاز و بناء ما يعرف بالمدن الاقتصادية. و هذا الوعي بأهمية البناء الحضاري أفرزته مجموعة من التحديات الإقليمة و العالمية في كافة الجوانب.
و يدرك القادة و المسؤولون أن قيام مثل هذا النوع من المشاريع لا يتم دون تطوير الموارد البشرية القادرة على القيام بمسؤوليتها تجاه تنفيذ و تحقيق البنية الاقتصادية و الاجتماعية, و أن توفير المهارات و الخبرات ضرورة ملحة في توجيه و متابعة الاستخدام الرشيد للموارد.
و لأن التعليم هو أهم مناطق الاستثمار الفعال التي تخدم برامج تطوير الموارد البشرية, جاء قرار الدولة بتفعيل برنامج الابتعاث إلى الخارج بعد فترة من السكون كانت قد فرضتها الظروف الاقتصادية و السياسة خلال الحقبة التسعينية من القرن الماضي. و يقدم البرنامج فرصا لإتمام التعليم العالي في مختلف التخصصات في العلوم الإنسانية و التطبيقية بناء على توزيع يتوافق مع خطة التنمية. و تشير التوقعات أن عدد المبتعثين و المبتعثات قد يصل إلى ثلاثين ألف خلال خمس سنوات.
في مثل هذه الحالة, يمكن أن نقول أننا أمام لحظة مهمة من أهم لحظات التغيير الاجتماعي. فقرار الابتعاث – وما يتضمنه من تأهيل معرفي للأفراد و اندماج ثقافي - ليس إلا أداة من أدوات التغيير الاجتماعي الواعي الذي تدير شؤونه الحكومة. و التغيير الاجتماعي مصطلح محايد و ضرورة قائمة يتعمد تقييمه على نتائجه. و هو في قضية الابتعاث يعمل ضمن إطار منظم يهدف إلى تنمية المجتمع من جميع جوانبه الاقتصادية, و الثقافية, و الاجتماعية.
إن التغيير الاجتماعي يعمل وفق أدوات واعية, أي أنه يتجاوز التلقائية في الحركة إلى القصد في التغيير وفقا لخطة محددة. وهو يتناول مسألة التفاعل الكبير بين الطاقات البشرية, و الإمكانات المادية تحت تأثير محفز فكري أو ثقافي معين.
و لذلك تبرز هنا أهمية الجماهير- كأحد أهم الطاقات البشرية- في إثبات صلاحية قرار الابتعاث في تحريك عجلة التغيير الاجتماعي أو إيقافها. وفي مثل هذه الحالات, نجد أن الأطراف المعنية بإدارة الحراك الثقافي و التنموية تهدف لتسويق أفكارها حول القضية سلبا و إيجابا على حسب موقفها من جدوى القرار و مصالحها المترتبة من ورائه. فالملحمة الجدلية التي كانت على الصحف و تبنتها بعض المواقع الإلكترونية و شهدتها المجالس العامة لم تكن تفاعلا مع قرار إداري بسيط, بل كانت تحركا يدرك شروط اللعبة و ارتباطه الوثيق بكافة جوانب التغيير الاجتماعي.
و منذ صدور قرار الابتعاث, استقبلت وزارة التعليم العالي عشرات الآلاف من الطلبات الراغبة بالالتحاق بالبعثة. و مما يجدر ذكره أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت الاختيار الأول لأغلب المتقدمين رغم الظروف السياسية الراهنة, و برغم أيضا الصعوبات التي تواجه المتقدمين على تأشيرة الدخول إليها. و هذا ما يعكس رغبة جامحة لدى كثير منهم في إحداث نوع من الاندماج مع الحضارة الحديثة و إنتاج قيمها و استهلاكها إلى جانب منتجاتها. و قد أصبحت بعض هذه القيم مجسدة و جلية في واقعنا, فالحديث عن الاقتصاد و أسعار الأسهم و الربح و الإستثمارأصبح أكثر الأحاديث جاذبية و سيطرة على العقول و المجالس. وهذه كلها تضخمت مع سيادة المذهبية الرأسمالية عالميا و انتقال عدواها إلينا. و بما أن الإبتعاث يوفر فرصة وظيفية بدخل مميزيرفع من مكانة الفرد في سلم الطبقات الاجتماعية, كان هذا كافيا لتحريك هذا العدد الضخم للتفاعل مع القرار أكثر من أي محفز آخر.
وفي نفس الوقت الذي نجد فيه هذا الإقبال الكبير على خوض التجربة, نجد أن طرفا آخرا وقف موقف الضد من قرار الابتعاث, حيث يرى أن التغيير الاجتماعي حينها سيتجه نحو السلبية و فساد المجتمع. و بدأ بمحاولة التشكيك في جدوى القرار و جديته في دفع مسيرة الإصلاح. كما يدعي أن العقيدة و الأخلاق ستتعرضان لهجوم شرس أثناء الاندماج في الثقافة الغربية سيهزم أبناءنا, ثم تنتقل العدوى لتفشو في المجتمع المحافظ حتى تهدمه تماما. و لذلك بدأت حملة كبيرة على المنابرو مواقع الإنترنت تحذر الشباب من الانجراف وراء تحصيل الدنيا مقابل بيع الآخرة, و غير ذلك من المنذرات بالعواقب الوخيمة. و هذا ما جعل مجموعة من الناس تقتنع بقوة هذا الرأي و تعزف عن خوض التجربة محل الجدل.
و الحقيقة أن المسألة تعتمد على مجموعة كبيرة من الموازنات بين المصالح و المفاسد. و يجب أن ندرك أن التفكير البعيد عن مفاهيم التغيير الاجتماعي آفة كبيرة في عقول بعض من يدير صناعة الرأي العام تجعل فكرها حادا و مصادما مع سنة التغير التلقائية. و فوق ذلك نقول أن التغيير الاجتماعي مطلب شرعي, فمسألة "البعث الحضاري" لأمتنا هي أهم وسيلة فعالة لاستنقاذ البشرية, و فرض كفاية تجمع عليه جميع الأطراف. نقول هذا دون أن نهمش أن الاندماج في حضارة أخرى أثناء الابتعاث يحتاج إلى مؤهلات كثيرة و استعدادات كبيرة و تخطيطات مسبقة كي يحقق مقاصده العليا, و بدونها يمكن أن تتعرض المبادئ و الممارسات الدينية إلى خطر كبير.
و إن يسر الله, سأتناول في زاويتي المتواضعة تفاصيل محددة تتعلق بتجربة الابتعاث و الغربة, و فيها أصوغ رؤيتي البسيطة التي تشكلت حول بعض المحاور خلال سنوات غربتي التي مازلت أعيشها في الولايات المتحدة الأمريكية. و إني لأرجو الله أن أكشف عن جديد – و لو بالنسبة لبعض القراء -, أو أن أشرح غامضا خلال رحلتي معكم, كما سأسعى لتحليل بعض الأمور المتفرقة و التي تخدم الحكم على القضية بشكل موضوعي و متأني. فبناء القناعات السريعة من أشباه المعلومات هو ما يفسد على مسيرة التقدم و النهضة, و في النهاية هي اجتهاد شخصي لا أكثر, و الله ولي التوفيق .