كلام في موضوع العقل العربي
(1)
لم يمر على الأمة العربية و الاسلامية عهد ، في تناقل المعرفة والثقافة بين أبنائها أفضل من عهد الخليفة العباسي المأمون .. حيث كان هناك من يكتب ويتحدث لخاصة الخاصة وهناك من يكتب لعامة الخاصة وهناك من يكتب لخاصة العامة و هناك من يكتب لعامة العامة ..
فكانت آثار المعرفة والعلوم تغطي على عموم أصناف المجتمع ، ويتبادل تلك المعرفة أبناء الأمة كل حسب قدرته اللغوية وكل حسب رصيده من تلك المعرفة ، وكان الخطاب المعرفي العام الذي يفقه لكل شؤون الحياة يجد طريقه لنفوس أبناء الأمة ، فيترك فعله القوي في تفجير طاقاتهم الإبداعية بنسق قوي منسجم مع روحية الاسلام الذي تمثله سلطة الخلافة ، وإرادة جماعية تتسم بالأنفة وأهلية الريادة في حمل الرسالة الى شعوب الأرض ..
فكان جسم الأمة يتحرك كتموجات بشرية مؤمنة بربها و ملتزمة بدينه ، وتعمل وفق إرادة الله في إطلاق ما ترك للعبد من هوامش كي يثبت طاعته المطلقة لله تعالى بما يرضيه ، ويؤمن لبقية العباد خدمة إخوانهم المبدعين لهم في تطوير مناحي حياتهم الدنيوية ..
وعندما تتجول في صفحات التاريخ فانك تجد واحات أو مدن زاخرة بسكانها المبدعين ، فتذهب لمدينة الفلك فتجد من يجذبك بجديته الدءوبة ، وتذهب الى مدينة الطب فتجد من يشدك نحو مبدعيها ، وفي اللغة والكيمياء والموسيقى والفلسفة وفي كل مناحي الحياة .. بطرز (معمارية ) متناسقة بين تلك المدن ، ويطيب لك البقاء في كل مدينة دون ضجر أو تفضيل من واحدة لأخرى ..
ومن هنا كان تماسك الأمة و بهاء لونها هو الطاغي على سماتها العامة ، ولم يكن للأمم الأخرى أي قدرة على مطاولة تلك الأمة .. بل كان الإعجاب والاحترام هو السمة التي كانت تطبع سلوك الأمم تجاه أمتنا ، فكانت تتمثل بتقديم الهدايا ، إعجابا واحتراما وهيبة ، وكانت مناهل الأمة مبذولة أمام كل أبناء الأمم لينهلوا من علمها ومعرفتها ، وهذا يتفق مع روحية الرسالة و هو ما مهد الطريق أمام الكثيرين لاعتناق الاسلام دون حروب فيما بعد ..
أما اليوم فان خاصة الخاصة تغلق جدرا حولها و لا يكاد يرشح من علمها ومعرفتها المحدودين ما يفيد أبناء الأمة ، فقد أغلقت المنافذ بين أصناف طبقات المعرفة ، حتى غدت وكأنها جزر لا اتصال بينها ..
فمفردات اللغة المكتوبة و المسموعة لا يكاد يفقهها الا القلة ، ومجالس العارفين لا يرتادها الا القلة ، وكتابات العارفين لا يقتنيها الا القلة .. وعندما يقتنوها بالصدفة فان الزمان الذي كتبت به سيصبح قديما ، عندما يتم قراءتها فتنعدم الفائدة من الاطلاع عليها ..
فالعلامات الثقافية هي كعلامات المرور ، يجب أن تكون علامة التحذير من منعطف قريبة بمسافة كافية من المنعطف نفسه ، فلا فائدة منها اذا وضعت بعد المنعطف بعدة أميال .. ولما كان تسارع التطور الحضاري في العقود الماضية من التقارب بمكان ، فعلى واضعي الإشارات الثقافية ان يكونوا على أهبة الاستعداد لوضع إشاراتهم في وقت يسمح للآخرين للاستفادة منه !
كلام في موضوع العقل العربي
(2)
لم نقدم التقديم الأول من باب البطر الثقافي أو حشو الكلام ، لكن قدمناه كمحاولة للتمهيد لموضوع العقل العربي ، لتقديم ما يمكن من إسهام في منع الإحساس بالشعور بعبثية أداء المثقفين العرب ، و خيبة أملهم في اعتبار أن ما يقومون به هو عبارة عن نشاط لأناس عديمي الوزن ..
فان كان هذا الإحساس قد استفحل عند القارئ العربي .. فعزف عن قراءة ما يكتب ، حتى لو كان جادا .. فاذا شعر الكاتب أو المثقف الذي يحاول تقديم جزءا من رسالة الأمة في تصويب وضعها .. فان ينابيع هذا الجهد ستنضب شيئا فشيئا ، بحجة أنه لا يوجد من يقرأ ولا يوجد من ينتقد . وعندها ستملأ هذا الفراغ أقلام تم بريها أو تحضير مدادها في أمكنة مشبوهة ، همها الأول هو الإجهاز على ما تبقى من قلاع للدفاع عن موروثنا الحضاري ..
لكن لماذا ربطنا العنوان بمصطلح العقل ؟ فهل هناك عقلا عربيا و عقلا روسيا وعقلا أمريكيا الخ .. أليس العقل مصطلحا يقترن بالإنسان دون تخصيص جنسيته ، بل فقط لنميزه عن الحيوان و الكائنات الحية الأخرى ؟ ألم يكن من الأفضل استخدام كلمة فكر بدل عقل ، كي نخلص من تلك التساؤلات ؟ ..
بيد أنه لو استخدمنا كلمة فكر ، لتراءى لنا حصيلة النتاج الفكري لأمة من علوم مختلفة من فلك ورياضيات و طب و هندسة وفلسفة .. وهنا سيكون التمييز أكثر وضوحا عند أمة عن غيرها من الأمم . لكننا لا نناقش الفكر هنا كنتاج بل نناقشه كأداة منتجة لهذا النتاج .
ان الفكر ونتاج الفكر رغم ترابطهما العضوي و الصميمي ، لا يدلان في حالتنا العربية على الدلالة التي يرمز لها العقل ، فمصطلح العقل والذي ورد بالقرآن الكريم هو أو مشتقاته ( أفلا يعقلون ) ، له دلالة أكثر قدرة على التعبير عن العملية التي تتصل به في وقائع حدوثها أو استعمالها ..
عندما يكتب أحد المستشرقين عن واقع الأمة العربية ، أو يتناول أحد مناحيها فانه مهما اجتهد ، لن يكون ما يكتبه مطابقا لما هو فيها سواء كحالة عامة ، أو حتى المنحى الذي اختار الحديث عنه . كذلك الأمر عندما يؤلف أحد أبناء العرب عن أرسطو أو إفلاطون أو شكسبير .. وان نال فيما يكتب شهادة عليا ، فان كتابته ستكون ناقصة . ونقصان قيمة الكتابة آت من أن الكاتب في كل الحالات السابقة ، يكتب من خارج الحالة التي يكتب عنها ، أي أنه سيستخدم أداة ( العقل) التي لا تمت بصلة عن الحالة التي يكتب عنها .
اذ أن التفكير بواسطة ثقافة ما ، معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل إحداثياتها الأساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها ، وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة الى المستقبل ، بل والنظرة الى العالم والى الكون والانسان ، كما تحددها مكونات تلك الثقافة . فاذا كان الإنسان يحمل معه تاريخه شاء أم كره ، كما يقال ، فكذلك انه يحمل الفكر معه ، شاء أم كره ..